أشجار العطاء
أنا شاب في بداية الثلاثينيات من عمري نشأت في أسرة متوسطة مكونة من أب موظف وأم تعمل مدرسة وأربعة من الأولاد. الأب حازم وحنون في نفس الوقت.. والأم نهر من الحب والعطف والتنظيم في البيت.
وبما أن ذكري رحيل أمي رحمة الله عليها تأتي هذه الأيام ففكرت أن أكتب عنها بضعة سطور وأن أسألك وأسأل القراء الاعزاء ان كنت وفيت حقها في حياتها وبعد موتها كذلك وايضا لانبه اصحاب قصة الغفلة لشيء مهم جدا جدا وهو أن اصعب احساس في هذه الدنيا هو احساس الذنب والندم وأن الوقت مازال باقيا للتكفير عن غلطتهم وتقصيرهم تجاه أمهم الحبيبة.
اختصر قصة أمي لأصل للمحطة الأخيرة حيث توفيت عن عمر يناهز الـ52 عاما بعد صراع لم يدم طويلا مع المرض اللعين حين انقض عليها سريعا كما ينقض الذئب الجائع علي الحمل البرئ. فبعد أن اكتشفنا تدهور حالتها بعد قضائها بضعة أسابيع في أحد المستشفيات حيث العلاج الكيميائي رجعت أمي للبيت حين بدا لنا تحسن حالتها بدرجة واحد في المائة لكن سرعان ما تدهورت الحالة بعد يومين من عودتها للبيت واتذكر جيدا حين بدأت تفقد تدريجيا الحس في الاطراف فاتصل أخي الكبير بالدكتور ليسأله عن هذه الاعراض فقال له إن هذا طبيعي ومتوقع ولما علمت من أخي بهذا ظللت أبكي لأني عرفت أنها بداية النهاية.
كنت في هذه الاثناء قد بدأت أول عمل لي حيث كان تخرجي في كلية الهندسة هذا العام فذهبت للعمل في اليوم التالي وأول شيء فعلته أني دخلت للمدير وقلت له إني اعتذر عن هذه الوظيفة حيث ان ظروفا قهرية تستدعي بقائي في البيت لمدة لا يعرفها إلا الله وان كان لي نصيب في هذه الوظيفة بعد أن يقضي الله أمرا كان مفعولا فستنتظرني وآن كان غير ذلك فلا يهم فالظرف الآخر أهم وأهم.
وقررت أن أجلس بجانب أمي في آخر أيامها التي امتدت لنحو اسبوعين وأفعل كل ما بوسعي لاريحها قدر المستطاع وكذلك فعل أخي الأكبر.
وكان ابي يرجع من عمله مسرعا لينضم إلينا, والاخوان الاخران مازالا يدرسان فكانا يفعلان قدر استطاعتيهما.
لن أنسي هذين الاسبوعين أبدا لانهما كانا كسنتين أو أكثر.. تعلمت قليلا من التمريض وكيفية التعامل في مواقف حرجة للغاية.
كنا في هذه الأيام نخدم أمي ونأتي لها بالطعام والشراب والدواء كنا نعاملها كطفلتنا حين كنت أنام بجانبها وأتذكر معها الأيام الجميلة واظل اكذب عليها وأقول لها إنها ستعود وستفعل أكثر مما فعلنا وكنت أغني لها التواشيح الدينية التي كنا نغنيها معا في الماضي كنت كذلك اقوم بتنظيف وتسليك اسنانها بعد الأكل حين بدأت تفقد احساسها باليدين كليا.. كنا نساعدها في قضاء حاجتها في مكانها عن طريق الكافولات لكبار السن وكنت كل مرة أخرج من غرفتها لابكي وأقول لنفسي: في طفولتنا نحن الاربعة كانت أمي تغير لنا الكافولة وهي سعيدة وراضية وتنتظر لنا المستقبل الباهر.. ونحن في كبرها ومرضها نغير لها الكافولة وننتظر لها قضاء الله سبحانه وتعالي.
كنا نموت في اليوم مائة مرة حين كنا نسمع أنينها وتألمها ولا نملك لها سوي الدعاء والمواساة.. رأيت أبي يبكي في هذه الأيام وكذلك الإخوة والخالات والجدة.
كنت في هذه الأيام كثيرا ما أسترجع شريط حياتي مع أمي واتذكر كل كبيرة وصغيرة وكثيرا جدا ما كنت أبكي من الندم لأني لم أفعل المزيد لارضائها وشكرها وتقبيلها.. كنت اقبلها كثيرا في هذه الأيام واطيل النظر في وجهها وأظل ادعو الله أن يمد في عمرها ولو سنة واحدة أو شهرا واحدا لارد لها قطرة من بحر الجمايل التي اغرقتني بها طيلة حياتها التي افنتها في سبيلي وسبيل كل من حولها.
وكان الدعاء الدائم في هذه الأيام هو: اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكن أسالك اللطف فيه.
ولما بدا الأجل قريبا بدأ أبي في التجهيزات فبعثني لأسأل عن إجراءات استخراج تصريح الدفن, وبعث اخي الاصغر ليسأل عن سيدات للتغسيل والتكفين, وسأل أخي الكبير في عمله عن تأجير سيارة تكريم الإنسان, حتي إذا جاءت ساعة الصفر نكون علي أهبة الاستعداد للتحرك وتكريم أمي العزيزة بطريقة منظمة وسريعة.
وفعلا جاءت اللحظة الأخيرة للاسف وبما أننا كنا ننتظرها فكنا متماسكين وكان الله سبحانه وتعالي قد رطب قلوبنا لاستقبال هذه اللحظة.
ماتت أمي في هدوء علي سريرها بين أولادها وزوجها وأمها التي تجمدت الدموع في عينيها وفي الصباح الباكر تم تغسيلها في هدوء تام وتم استخراج التصاريح في سهولة ويسر في دقائق وجاءت سيارة تكريم الإنسان في ميعادها وخرجنا بها من المنزل في الثامنة صباحا في هدوء وسكينة بغير أي صوت أو ضجيج حتي أن الجيران لم يعلموا بوفاتها إلا بعد رجوعنا من الدفن الذي تم في القرية التي ننتمي لها في الاقاليم.
مررت بأيام عصيبة بعد وفاة أمي ولم استطع لفترة طويلة أن استرجع حياتي وتركيزي في عملي الذي رجعت إليه حتي جاءت لي أمي في حلم كنت أبكي فيه بجانبها واستيقظت هي من نومها بسبب دموع سقطت علي خدها لتقول لي بوجهها البشوش: لا لا ياحبيبي لازم تؤمن بالقضاء والقدر.
لقد حفظت سورة الملك لأقرأها كل يوم تقريبا علي روح أمي الحبيبة وبالرغم من مرور تسعة أعوام علي وفاتها فمازلت ابكي واتذكرها في مناسبات كثيرة جدا فادعو لها بالرحمة وبدخول الجنة والنعيم في الآخرة ان شاء الله.
فهل أكون وفيت ولو ورقة في أشجار العطاء التي طرحتها أمي علي طيلة حياتها؟
هل أكون رددت لها الجميل أو بعضه؟
إني ادعو الله أن يبارك لنا في والدنا الحبيب الحنون وأقبل يده كثيرا وأطلب منه الدعاء والرضا.
وأكاد اقسم أن نجاحي في عملي وتفوقي فيه واستقراري النفسي والديني في حياتي وحب الناس لي سببها بركة دعاء الوالدين ورضاهما عني.
أناشد اصحاب قصة الغفلة أن يفيقوا أن يتقوا الله في أمهم الحبيبة حتي لا يندموا وقت لا ينفع الندم.
أناشد كل ابن وكل بنت أن يبذلوا كل ما في وسعهم لارضاء الوالدين ونصيحتي لهم أن يجربوا تقبيل أيادي ابيهم وأمهم حتي يحسوا بالراحة النفسية جراء رضائهم عنهم
وأقول لأمي إننا نتذكرك دائما وندعو لك دائما وننتظر أن نلتقي بك ان شاء الله في الجنة.