إلا أمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــي
ترددت كثيرا في كتابة رسالتي هذه, ولكن الذي شجعني هو قرب الاحتفال بعيد الأم لتكون مناسبة لتقديم شهادة تقدير ووفاء لوالدتي وفي الوقت نفسه لتكون بكلماتكم الواعظ والناصح للأبناء الذين تناسوا أمهاتهم وفضلوا إرضاء زوجاتهم علي رضاء الأم. وأتمني أن ترد كل ابن أو زوجة ابن ظالمة لتصحو وتحسن معاملة حماتها, وتتذكر أنها في يوم من الأيام ستكون مثلها.
أنا باختصار الابنة الصغري( الثالثة) لأخ أكبر مني بسبع سنوات, وأخت تصغره مباشرة في السن. عمري الآن تخطي الثلاثين بقليل نشأت لأب موظف عادي من عائلة كبيرة استولي شقيقه علي ورثه, وربانا علي الاعتماد علي دخله البسيط. وأم غاية في الحنية والطيبة اجتهدا في تربيتنا حتي تخرج شقيقي من الجامعة وسعي والدي وطرق كل الأبواب لرؤسائه ليوفر عملا لأخي في نفس عمله في مركز يتناسب مع مؤهله, وحصل عليه بصعوبة بعد عناء كبير.
شقيقي الكبير نال من التدليل من أمي ما يفوق الوصف, كانت تحرم نفسها من أي شيء لكي توفره له. أما أنا وشقيقتي فطلباتنا بسيطة حتي لا نثقل كاهل والدي الذي كان شديد العصبية بسبب الضغط النفسي, فكان يفرغه في والدتي بالاهانة والسباب وهي صامتة, لم ترد عليه مرة واحدة علي مدي سنوات زواجها الأربعين.. لم تنطق ولم تعلن ألمها وكبتت أحزانها منذ سنوات صباها, فكان طبيعيا أن تصاب بأمراض عدة لم تثنها يوما عن التفاني في خدمة زوجها وأبنائها, راضية بما كتبه الله عليها, مرددة أن الله سيعوضها خيرا بنا.
خرج والدي علي المعاش, وحصل علي مكافأة نهاية الخدمة, وكالعادة وبتشجيع من أمي أنفقها بكاملها علي أخي. دفع له المهر والشبكة, وجهز له الشقة التي كنا نحلم بها وننتظرها. تلك الشقة التي حجزتها أمي لتكون لنا سكنا أوسع من تلك الشقة الضيقة التي نعيش فيها. منحوها لأخي بعد أن قالت أمي بكل حب مش خسارة أبدا في أخيكم.. ساهم أبي بما تبقي لديه في زواج شقيقتي, أما أنا وأمي فلم ننل أي شيء من تلك المكافأة, حتي السيارة استولي عليها, وكنا راضين, آملين في سعادته.
ماذا فعل أخي ـ يا سيدي ـ بعد زواجه.. نسانا جميعا, أهمل أمه, لم يعد بينه وبينها إلا تليفون عابر سريع, بينما غرق في تلبية طلبات أهل زوجته. تلك الزوجة التي مارست سطوتها عليه, فكانت تتفنن في إهانته علي الرغم من أنه نقلها إلي مستوي لم تكن تحلم به. كانت والدتي تحزن علي حال ابنها فتتصل بزوجته وتلاطفها وتدعوها إلي طاعته. حتي جاء يوم واشتعلت معركة بين شقيقي وزوجته, فذهبت والدتي إليها في شقتهما التي هي في الأصل شقتنا, وعاتبتها علي ما تفعله بزوجها, وطالبتها بحسن المعاملة, فما كان من زوجة أخي إلا أن طردتها أمام الجميع اطلعي بره من بيتي فيما نكس أخي رأسه, ولم ينطق بكلمة وهو يري أمه مطرودة مهانة من بيتها التي ضحت به من أجل سعادته مع تلك الزوجة التي أهانتها.
بعد هذه الواقعة كان انتقام الله سريعا من أخي, فقد تعرض للضرب من عائلة زوجته فأصيب بارتجاج في المخ استدعي دخوله المستشفي, ولم يقف بجواره إلا أنا وأمي التي أصيبت بنزيف في عينها من البكاء عليه.
عاد أخي بعد خروجه من المستشفي الي زوجته بعد أن وضعت مولودها الأول وغرق مرة أخري في دوامة زوجته وأسرتها وواصل إهماله لأمي.. تراه من شرفة المنزل, وهو في طريقه إلي زيارة حماته وتستجديه أن تراه للحظات فيرد عليها بجفاء شديد وقسوة لا أعرف من أين أتي بها.
انطفأت أمي وازداد شحوبها مع هجر وحيدها وقسوته عليها وازداد حزنها ذات يوم عندما ذهبت لزيارة شقيقتها, وشاهدت أولادها من حولها يقبلون يديها, ويحرصون يوميا علي زيارتها. أصابتها الحسرة, ولأول مرة تكشف عن حجم ألمها من جحود إبنها لشقيقتي.
ذات يوم, عدت أنا ووالدي إلي شقتنا ففوجئنا بأمي ملقاة علي الأرض في غيبوبة كاملة, فسارعنا بمعاونة الجيران بنقلها إلي المستشفي لنكتشف اصابتها بجلطة في المخ أدت إلي أن أصبحت مشلولة تجلس علي كرسي متحرك.. لا تنطق بكلمة.. الدموع في عينيها تردد دائما حسبي الله ونعم الوكيل.. سقطت أمي لتعلن حزنها ويأسها من عودة ابنها إليها. لم تفلح كلماتي أنا وشقيقتي وأبي في التسرية عنها.
عاش أبي تحت أقدام أمي ـ برغم كبر سنه ـ يخدمها بعينيه, وأنا قدر استطاعتي, وكذلك شقيقتي مع انشغالها بزوجها وأبنائها.
تستضيفها شقيقتي في بيتها أياما حتي يضيق زوجها بها, فتعود إلي المنزل, وبعد الحاح لرفع معنوياتها يأخذها شقيقي, فتعاملها زوجته أسوأ معاملة, تخرج كل صباح ولا تعود إلا مساء, حتي الطعام يحضره شقيقي من المطاعم.
كان هذا في رمضان الماضي, افتعلت مشاجرة عنيفة مع شقيقي وتركت أمي تغادر الشقة علي كرسي متحرك وقت آذان المغرب, حتي تستقبل شقيقتها الحامل لتعيش معها فترة سفر زوجها خارج البلاد.
سيدي.. لا أريد أن أحكي تفاصيل محزنة كثيرة, فالحمد لله أمي تعيش معي ومع أبي, لا أدخر جهدا في خدمتها, وقد أكرمني الله كثيرا بسبب حسن معاملتي لها فتدرجت في وظيفتي إلي أعلي وزاد راتبي.. لم أضعف يوما أمام عريس مناسب يطرق بابي, أرفض لأني لا يمكن ترك أمي وحيدة.
أخي رزقه الله بولدين أخشي عليه من أن يتذوق من نفس الكأس الذي أذاقه لأمي. وكلي ثقة في عدل الله أن زوجته ستحصد شوك ما غرسته. كل أملي الآن أن تعيش أمي ما تبقي لها من عمر في راحة نفسية, وأن يهدي الله شقيقي فيعود إلي رشده, ويأتي ليقبل يديها وقدميها, بدلا من أن يأتي يوم تقتله فيه الحسرة والندم, ولا يستطيع التوبة أو طلب العفو من ست الحبايب أمي!