مات عمي يا سيدي شقيق أبي وتوءم روحه وديعا عاش هادئا مات. كان طيبا, مسالما, حنونا, معطاء, لم يعرف الكره, ولا الحقد, ولا الصراع, ولا الانتقام, حزينة أنا حتي الموت, يفت الغم والكمد في روحي, ويحز في نفسي حزا, ليس لموته فحسب, فالموت حق, وكل نفس ذائقة الموت, بل لأنه مات مقهورا وحزينا, معذبة نفسه من أقرب الناس إليه نعم يا سيدي جحدته زوجته لا سامحها الله, وجحدته بناته الثلاث, ولم يكن له من قلب دافيء إلا ابنه الوحيد, وبنت أخيه( لست أنا) التي استضافته في بيتها, وشملته بحبها ورعايتها إحدي وعشرين ليلة حين زعمت ابنته الكبري أنه لا مكان لأبيها في بيتها الجميل الذي يقع في إحدي ضواحي القاهرة الفاخرة, علي الرغم من أن لديها من الأبناء اثنين فقط, أحدهما دكتور والأخري جامعية, ولا أعتب كثيرا علي زوجها بالرغم من سلبيته في تقويم اعوجاج زوجته تلك ابنته الكبري أول أمله في الحياة, فرحته الغامرة حين جاءت إلي الدنيا, ولا أنسي حين عاد من عندها وقد استضافته أربع ليال تحت إلحاح شديد من أخيها, كم كانت سعادته النفسية, وقد وهم بأنه قد يجد مكانا له دائما في قلبها وفي بيتها, لا أنسي كم كانت صدمته عندما علم بأنها تعلن دون حياء أسفها لعدم وجود مكان له في بيتها!! يا الله إن الضيق ليس في البيوت وإنما في النفوس. أما الثانية فهي أيضا سيدة رائعة تقيم في الخليج مع زوجها وأبنائها, تتقي الله وتحاول أن ترعي حدوده في كل شيء إلا أن تفتح بيتها الأنيق الشاغر في مدينتنا الساحلية الجميلة التي كان يعيش فيها عمي طوال حياته, نعم رفضت بثبات عجيب أن يقيم أبوها في شقتها الخالية, وقالت: بيتي ليس مشاعا, ولم يكن عمي مصدقا لما قالته في باديء الأمر, ولم نكن نحن أيضا إلا مذهولين!! ومن عجب أن زوجها أيضا تعامل مع الموقف بسلبية عجيبة علي الرغم من حسن خلقه وورعه وتقواه, وقد تركاه في أحد الأيام منتظرا لهما في الشارع وأخذا طريقهما إلي القاهرة للترفيه وقضاء عشرة أيام عند الأخت الكبري التي لا مكان لأبيها في بيتها!!
أما الابنة الثالثة فهي شابة واعدة, مثقفة, تعمل بإحدي كليات الصفوة, رباها عمي الحنون علي كثير من التدليل والحب والتفاني, فلم يكن يقوي علي أن يرد لها طلبا حتي ولو اضطر أحيانا إلي الاستدانة ليلبي حاجاتها, وكان يقول للجميع: دعوها وشأنها فهي ابنه الشيخوخة, هل تصدق يا سيدي, وهل تصدقون أيها القراء الأعزاء أنها لم تسأل عن والدها قرابة شهر ونصف الشهر إلا مرتين أو ثلاث, وبعد إلحاح منا ومن أخيها, وكانت أحيانا تتطاول علينا بالكلمات بدعوي أنه لا شأن لنا, وأننا أناس متطفلون. ضاع أمل عمي في بناته, واندحرت أمانيه, ورحل هناؤه, ولم يسانده سوي ابنه البار الذي حار واحتار فيما يمكن أن يقدمه لأبيه, وقد كانت ألسنة أخواته حدادا عليه تتهمه بالتقصير, وكن يبرئن أنفسهن بدعوي أن الوالدين هما مسئولية الابن دون الابنه! وتضافرنا جميعا علي رأي واحد, ولم تخرج واحدة منهن تنهر الأخري وتردها إلي صواب الحق وتقوي الله, وكن بحق بنات الملك لير يا الله كيف قدت قلوبهن من حجر!!
وقد تسألني بالطبع عن زوجته ودورها إنها يا سيدي ممن قال فيهن رسول الله: يكفرن العشير ويقلن: ما رأيت منك خيرا قط عاشت معه رحلة طويلة مليئة بالكدر والمشاحنات التي كانت تصطنعها, وكلما مرت السنون ازدادت شراسة وقسوة وبذاءة, وازداد هو سكوتا وضعفا واستسلاما... تقول: ما أحببته قط, ونقول لها: ولماذا لم تطلبي الطلاق في حينه؟ وهل يحق لك أن تقهريه في شيخوخته, وأن تهيني إنسانيته, وأن تسمعيه في كل لحظة ما لا يطيق بشر أن يسمعه, ثم تدفعينه دفعا إلي ترك البيت, بل بكل أسف طرده من بيته, وعدم الاستجابة لكل رجاءاتنا وتوسلاتنا, وتهديدنا لك بالويل والعذاب من الله عز وجل. عاش عمي يا سيدي أياما طويلة حزينا يقلب كفيه, يعاني من شعور بالذل, والعجز والقهر والحزن, يسأل نفسه كل لحظة ولا يدري ماذا قدم من سوء لبناته وزوجته ليلقي منهن كل هذا الجحود والنكران؟ يتحدث إلي نفسه بصوت مسموع معاتبا الكبري تارة, متلهفا وقلقا علي الوسطي ثانية, سائلا ومتشوقا إلي الصغري تارة ثالثة كان هذا عمي يا سيدي يحترق في صمت كان مثل الطفل إذا تأخر عنه ابنه البار ساعة أو اثنتين, يجول في غرفته في دار المسنين, حائر العينين, فإذا ما التقاه عادت إليه روحه, وقال له: يا ابني أنت الأمان لي. كم تعذب ابن عمي هذا لا يدري ماذا يصنع مع أبيه؟ أيتركه في شقة وحده وهو أعزب لم يتزوج بعد؟ ويقضي وقتا طويلا في عمله بعيدا, أم يدعه مع أناس طيبين مخلصين في إحدي هذه الدور التي تحاول أن تضمد جراحات السنين وقسوة الابناء علي آبائهم وأني لها! ولم يكن عنده إلا هذا الخيار. لم يحتمل عمي غربته النفسية طويلا, فتك به القهر والجحود والألم, ولم تكن إلا بضعة أيام وقد راح في غيبوبة عميقة أراحه الله بعدها من كل عذاباته ودموعه ونزيف قلبه... ودعاه إلي جواره, فلبي هادئا مسالما ومسرعا.. ووري عمي الثري ــ يرحمه الله ــ آه يا عمي الحبيب كيف أقتص لك ممن ذبحوك وعجلوا بموتك قهرا وكمدا وتعاسة وحيرة؟.... حسبي الله ونعم الوكيل سنذكرك يا عمي دائما وندعوك وندعو لك في أماسي الشوق والحنين, ولتقرأ لك كل القلوب الرحيمة العامرة الفاتحة داعية الله ان يتغمدك برحمته الواسعة.
أما الابنة الثالثة فهي شابة واعدة, مثقفة, تعمل بإحدي كليات الصفوة, رباها عمي الحنون علي كثير من التدليل والحب والتفاني, فلم يكن يقوي علي أن يرد لها طلبا حتي ولو اضطر أحيانا إلي الاستدانة ليلبي حاجاتها, وكان يقول للجميع: دعوها وشأنها فهي ابنه الشيخوخة, هل تصدق يا سيدي, وهل تصدقون أيها القراء الأعزاء أنها لم تسأل عن والدها قرابة شهر ونصف الشهر إلا مرتين أو ثلاث, وبعد إلحاح منا ومن أخيها, وكانت أحيانا تتطاول علينا بالكلمات بدعوي أنه لا شأن لنا, وأننا أناس متطفلون. ضاع أمل عمي في بناته, واندحرت أمانيه, ورحل هناؤه, ولم يسانده سوي ابنه البار الذي حار واحتار فيما يمكن أن يقدمه لأبيه, وقد كانت ألسنة أخواته حدادا عليه تتهمه بالتقصير, وكن يبرئن أنفسهن بدعوي أن الوالدين هما مسئولية الابن دون الابنه! وتضافرنا جميعا علي رأي واحد, ولم تخرج واحدة منهن تنهر الأخري وتردها إلي صواب الحق وتقوي الله, وكن بحق بنات الملك لير يا الله كيف قدت قلوبهن من حجر!!
وقد تسألني بالطبع عن زوجته ودورها إنها يا سيدي ممن قال فيهن رسول الله: يكفرن العشير ويقلن: ما رأيت منك خيرا قط عاشت معه رحلة طويلة مليئة بالكدر والمشاحنات التي كانت تصطنعها, وكلما مرت السنون ازدادت شراسة وقسوة وبذاءة, وازداد هو سكوتا وضعفا واستسلاما... تقول: ما أحببته قط, ونقول لها: ولماذا لم تطلبي الطلاق في حينه؟ وهل يحق لك أن تقهريه في شيخوخته, وأن تهيني إنسانيته, وأن تسمعيه في كل لحظة ما لا يطيق بشر أن يسمعه, ثم تدفعينه دفعا إلي ترك البيت, بل بكل أسف طرده من بيته, وعدم الاستجابة لكل رجاءاتنا وتوسلاتنا, وتهديدنا لك بالويل والعذاب من الله عز وجل. عاش عمي يا سيدي أياما طويلة حزينا يقلب كفيه, يعاني من شعور بالذل, والعجز والقهر والحزن, يسأل نفسه كل لحظة ولا يدري ماذا قدم من سوء لبناته وزوجته ليلقي منهن كل هذا الجحود والنكران؟ يتحدث إلي نفسه بصوت مسموع معاتبا الكبري تارة, متلهفا وقلقا علي الوسطي ثانية, سائلا ومتشوقا إلي الصغري تارة ثالثة كان هذا عمي يا سيدي يحترق في صمت كان مثل الطفل إذا تأخر عنه ابنه البار ساعة أو اثنتين, يجول في غرفته في دار المسنين, حائر العينين, فإذا ما التقاه عادت إليه روحه, وقال له: يا ابني أنت الأمان لي. كم تعذب ابن عمي هذا لا يدري ماذا يصنع مع أبيه؟ أيتركه في شقة وحده وهو أعزب لم يتزوج بعد؟ ويقضي وقتا طويلا في عمله بعيدا, أم يدعه مع أناس طيبين مخلصين في إحدي هذه الدور التي تحاول أن تضمد جراحات السنين وقسوة الابناء علي آبائهم وأني لها! ولم يكن عنده إلا هذا الخيار. لم يحتمل عمي غربته النفسية طويلا, فتك به القهر والجحود والألم, ولم تكن إلا بضعة أيام وقد راح في غيبوبة عميقة أراحه الله بعدها من كل عذاباته ودموعه ونزيف قلبه... ودعاه إلي جواره, فلبي هادئا مسالما ومسرعا.. ووري عمي الثري ــ يرحمه الله ــ آه يا عمي الحبيب كيف أقتص لك ممن ذبحوك وعجلوا بموتك قهرا وكمدا وتعاسة وحيرة؟.... حسبي الله ونعم الوكيل سنذكرك يا عمي دائما وندعوك وندعو لك في أماسي الشوق والحنين, ولتقرأ لك كل القلوب الرحيمة العامرة الفاتحة داعية الله ان يتغمدك برحمته الواسعة.