بطلة هذه القصة تقول : أكتب هذه الرسالة ليس بحثا عن حل ،ولكنى أريد فقط أن أتكلم
قليلا000 فهل تسمح لى ؟
عنوان القصة : جدار الصمت
أنا فتاة عمرى 26 عاما ، لا تخلو حياتى من مشاكل البنات فى مثل عمرى، أمل و طموح00احلام تتحقق وأخرى تنهار00 فراغ ووحدة ما بعد التخرج فى الجامعة 00 مشاعر و أحاسيس جميلة لا تلقى دوما التقدير و لا تلفت الانتباه،وقلب نابض دوما ينتظر نصفه الآخر0
إلى هنا و لا جديد00 حياه تشبه كثيرا ممن نراهم ، إلا إذا أضفنا الإحساس الدائم بعدم الانتماء إلى شخص أو مكان0
مشكلتى الحقيقية ، بدأت منذ طفولتى وأنا أشعر بحاجز كبير بيننا و بين أبى 00 انا و أخواتى وأمى فى ناحية ، وهو فى ناحية أخرى0
أبى عصبى ،صوته عال ، قليلا ما يبتسم ، قليلا ما يتكلم ،ونادرا ما يجلس معنا ، وعلى الرغم من كل هذه الصفات كان طيب القلب، يحاول بأقصى ما يمكنه أن نعيش حياة أفضل، بامكانات قليلة جدا علمنا و كسانا،وجعلنا نأكل ما نريد ولانشعر أبدا بأننا أقل ممن حولنا، ومع كل ظروف العمل الشاقة كان يرفض ان يعمل أشقائى فى الاجازات حتى لا يشعروا بالمهانة0
كان هناك دائما شيء غريب فى علاقتنا به، لا نخافه و لا نكرهه، ولكننا فى الوقت نفسه لا نألفه و نخجل منه00 لا نتحدث إليه ، و لا نطلب منه شيئا، وإذا أردنا نقودا أو بعض الاحتياجات نطلبها من أمنا و هى تطلب منه0
أصبح كل ما بيننا هو السلام فقط تجنبا لصوته العالى بدون سبب من وجهة نظرنا الصغيرة0
المشكلة لم تكن كذلك عند أخوتى ، فقد تعودوا على ذلك، أما أنا فلا، كنت مندهشة و رافضة لأن تكون العلاقة مع أمى فقط ، والحقيقة أنى كنت أشعر بحب جارف لأبى، ولدى رغبة شديدة فى التعبير عن ذلك، أريد أن أقول له (بحبك يا بابا) ولكن كيف و كل ما بيننا كلمات مقتضبة 00 نفسى أتحدث معه عن حياتى و صديقاتى و أحلامى 00 أتمنى أن أقول له إحساسى الأكيد أنه يحبنا وبشدة فيأتينى صمته الحزين أو صوته الهادر، فأنسحب داخل صمتى ليزداد خرس مشاعرى0
كبرنا على هذا الوضع يا سيدى، أب حنون يفنى ايامه و عمره من اجل أبنائه ، و يا للعجب فى الوقت نفسه يظهر عكس ذلك و كانه يريد أن يثبت لنا أنه يكرهنا ، وأنه ينفى عن نفسه تهمة حبه لنا0
أتذكر الأن ان امى سألته يوما (لماذا تعاملهم بهذه القسوة و انت تحبهم) اتعرف بماذا اجابها ؟ قال : إنه لا يريدنا أن نحزن عليه عندما يموت00 وقتها شعرت بالخوف و الألم ، ألهذا الحد كانت مشاعره رقيقة مرهفة00 يؤهلنا بالابتعاد و الألم حماية لنا من ألم اكبر0
عندما تأقلمنا مع الأمر الواقع، بدا ابى يشعر بالألم لأننا شديدوا الالتصاق بأمنا، كان بمجرد دخوله صالة البيت، ينصرف كل منا إلى حجرته، تاركين له التليفزيون وأمى، ما نفعله كان يؤلمه ويثير غضبه فلا يعبر عنه وإنما يفتعل مشاجرة ليصرخ فينا، فاصبحنا نستشعر خطواته فنفر من المكان حتى لا يرانا، ولا نمارس حياتنا إلا بعد أن يتناول عشاءه و ينام 00 الغريب أن علاقته بأمى كانت رائعة ، كان يحبها ولا يستطيع أن يخدشها بكلمة ، عكس فشله فى إقامة علاقة معنا0
حاول أبى فتح ثقوب مضيئة فى حاجز الصمت بيننا، و لكننا لم نساعده لأننا كبرنا و نحن نحترمه الى حد الخجل، لا نشعر به ، و نحتاجه ، نحتاجه كضيف مرغوب فيه، ولكنه مجرد ضيف غريب0
اتعبنى التفكير فى علاقتى بأبى، كنت أتعذب ، فأنا اريد ابا، وابى تحديدا، اريد الشعور بحنانه و حبه ، أريد تحطيم الحاجز الذى أقامه بيننا دون إرادته، والذى فشلنا فى إزالته دون إرادتنا0
احب أبى يا سيدى، احب فيه كل شىء00 تعلمت منه الكثير دون ان يحاول ذلك 00اراه يصلى الفجر ، فأصلى مثله00 يقرأ بريد الجمعة و يحكيه لأمى، فافعل مثله0 كان مثقفا برغم انه لم يتعلم، يشترى الكتب فاقرؤها إيمانا بأنها كتب قيمة0
تعلمت منه عشق الصمت و كتمان المشاعر و التألم وحدى00 و لكن الشوق إليه بدأ يجرفنى و يؤلمنى ، أنظر فى عينيه كثيرا فلا أرى منه سوى حزن دفين وجسد منهك ما بين العمل و بين العبادة، فكنت أشفق عليه و أتمنى لو أقبل يديه و قدميه و أطلب منه أن يستريح و يجلس بيننا قليلا، ولكنى كنت كل مرة أخجل أن أفعل ذلك، فعلاقتنا لم تسمح يوما بأقل من ذلك بقليل ، فكيف لى أن أجرؤ على الكثير0
ولأن للعمر أحكاما، وجدت نفسى بعد تفكير طويل أعفى ابى من أى مسئولية فى إقامة الجدار الصامت بيننا، ,اننا ساهمنا بقدر معه فى بنائه، فبدأت فى الاهتمام به فى حدود المسموح، انتهز لحظات دخوله البيت لأجلس معه، دون كلام، أجهز له الطعام، اعد له الشاى، واكوى له ملابسه0
بعدها بقليل ولظروف طارئة لم ار ابى لمدة يومين متواصلين، فرجعت و أنا فى شدة الشوق غايه، وقررت ان اقول له برغم كل الحواجز إنى احبه بشدة و انه أعظم أب ، سأحضنه حتى لو رفض أو تمنع، ساقبل يده و قدمه واتكلم معه كثيرا كثيرا0
دخلت البيت و سألت امى بلهفة (بابا فين) فقالت: أنه عاد من عمله وذهب فى مشوار قصير، وأخبرتنى انه سأل عنى بلهفة، فقلت لها سأعد له الشاى حتى يعود، ووقفت اذيب سكره بالمقدار الذى يحبه، ثم سمعت صوتا ينادى علينا بهلع، و سمعت أمى بعدها تصرخ، فوقفت مكانى و شعرت بأن بيتنا ينهار00 خرجت مذهولة لأسمع ما لم أتوقعه : (أبوك00 أبوك) أجرى إلى الخارج بلا صوت ولا دموع (فين بابا) لا يجيبنى احد ويجيبنى المشهد000
أبى ملقى على الأرض بالقرب من البيت، صدمته سيارة مسرعة00 فمات ؟ لماذا مت يا أبى قبل ان أقول لك انى أحبك0
الان فهمت لماذا كان أبى ينظر لى كثيرا فى ايامه الأخيرة00 الان فهمت سر اشتياقى الدائم له، وكاننى كنت احس بانه سيفارقنى بدون كلام00 كعادته0
عاش وحيدا و مات وحيدا00 لم نكن حوله و هو يموت كما كنا دائما0
لماذا يرحل أبى هكذا ، و كيف اقبل يده و هى فى التراب؟ و كيف اقبل قدمه0
كسرت و تألمت قبل موته، كيف أعيش الآن فإن احتملت مصيبتى و احتسبتها عند الله ، كيف أروى عطشى الدائم للأبوة00 لدى اشتياق غريب لأبى0
ان عقلي لا يتوقف لحظة عن التفكير في أبي...